تخطى إلى المحتوى

رحلة الطفل الصغير بين تشتت الانتباه وفرط الحركة

رحلة الطفل الصغير

في أركان غرفة ذلك الطفل الصغير، تتشابك حكايات معاناته بخيوط من الصمت والاستمرار، ويتجلى مشهد مليء بالتفاصيل الواضحة والمترابطة، محملاً بحكايات معاناته الفريدة. يعيش هذا الطفل في واقع داخلي معقد ومليء بالتحديات والصعوبات المتعددة، مما يؤثر على حياته اليومية بشكل عميق. انه ذلك الطفل الذي يعاني من فرط الحركة وتشتت الانتباه.

في هذه الأماكن الخفية، يتلاشى الطابع المجرد لاضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه، ويبرز أثره الخفي على تكوين وتطور هذه الشخصيات البريئة الصغيرة. إنها رحلة تنطلق من بين ظلال الغموض وتمتد في تفاصيل تحديات تتراوح بين المظاهر السلوكية والصعوبات التعليمية والتحديات الاجتماعية، تخلق لوحة فنية تتطلب تمعناً ورؤية صادقة في استجابتنا لها.

هنا سنكتب قصصا ملهمة تحكي عن صعوبات غير مرئية للكثير منا، تحتاج إلى فهم عميق وتفهم شامل، حيث نسعى لنقل هذه التجارب بكل تفاصيلها وعمقها، لتشكل مصدر إلهام وتوعية للقراء.

ليست جميع القصص واضحة كقصة تلك الأم التي حضرت للعيادة، حاملةً في حديثها مشكلة طفلها. حيث تستهل قصتها بصعوبة محاولتها السيطرة على طفلها، والخوف المستمر الذي يلازمها طوال اليوم أمام سلوكياته المندفعة والخطيرة. إحساسها بالعجز يتجلى في حدوث كسرين في أطرافه ناتجة عن سقوطه من درج المنزل ووقوعه من رف داخل المطبخ، تسترجع هذه الأم الأحداث الأسبوعية في الزيارة المتكررة لغرفة الطوارئ نتيجة الجروح والإصابات المتعددة، ينتابها الشعور بالإحباط من الفوضى العارمة التي يتركها حوله سواء في غرفته أو الأماكن الأخرى داخل المنزل، الصعوبة المستمرة للاستماع لأي توجيه أو ارشاد أو أمر بسيط يعقد المشهد اليومي لهذه الأم ولطفلها الصغير.

لا تملك القدرة على الاحتفاظ بأي لعبة له، ويبدو أن الانصراف لأي توجيه أمر غير ممكن، فقط لنلتقي بصورة حية وواضحة لتحديات حياة يومية ليس بها لون اللعب ولكنها مكسوة بلون الخطر والتحدي. (هذه الصورة الواضحة ليست بالضرورة حكاية كل أطفال فرط الحركة وتشتت الانتباه، فهذا الاضطراب ينسج نطاقاً عريضاً من الصعوبات والتحديات حيث يتفاوت الأطفال والمراهقين في مظاهرها وتختلف استجابات الأهل والبيئة المحيطة لها). إن طفل فرط الحركة في مراحله المبكرة من عمره وهي مرحلة استكشاف البيئة حوله يجد صعوبة في التركيز والانتباه، وذلك ينعكس بوضوح في عقله الصغير. يعيش في فقاعة زمنية خاصة به، حيث يضعف التركيز والانتباه ويتلاشى في متاهات عقله. يعاني من صعوبة في تنظيم انتباهه وتركيزه على مهمة واحدة، فالأفكار تتشعب وتتفرع في أدراكه بشكل متسارع ومتنوع.

في مرحلة ما قبل المدرسة، تظهر معاناة هؤلاء الأطفال بوضوح في سياق الحياة المنزلية. يكون البيت مسرحًا لمعركة يومية مع الاندفاعات اللامتناهية والتحديات التي تتطلب التعامل معها ببراعة. في زوايا الغرفة الصغيرة، يكون للفوضى ملكية خاصة، حيث تتراكم اللعب وتندلع الأفكار بشكل مفاجئ، مخلفة وراءها أثرًا من التشتت والتغيير المستمر، تمتد هذه التحديات لتشمل الصعوبات في فهم التعليمات اليومية البسيطة كالنظافة الشخصية والروتين اليومي والتنظيم الشخصي، فكل مهمة وطلب هي تحد بالنسبة له. يبدأ الأهل في هذه المرحلة بإطلاق الألقاب على هذا لطفل الصغير فهو الفوضوي والمشاكس العنيد، لا يسمع كلاماً ولا ينفذ طلباً، هنا تبدأ صورة ذلك الطفل بالتكون لذاته ووضع حواجز لرفض تلك الصورة الذاتية المشكلة من الأهل حوله. ومع كل تلك الصعوبات، يبني هذا الطفل الصغير جسرًا من الإبداع والتفاؤل في عالمه الخاص. تتجلى مهاراته الاستثنائية في الحماس والحيوية والابتكار والتعبير عن الذات، ورغم التحديات، يتألق بلمحات فنية وابتسامات صادقة ومشاعر استثنائية ينثرها في أروقة المنزل على من حوله.

هذا الطفل المبدع الصغير يحتاج لفهم عميق وتقدير لا حدود له من قبل الأهل والمجتمع، ليساعدوه على استكشاف إمكانياته الفريدة وبناء جسور من التواصل والدعم. وفي هذه المرحلة العمرية الهامة يحتاج الأهل التحلي بالصبر والدعم للطفل وعدم الاستعجال بإعطاء التصورات لهذه السلوكيات، فما يظهر أو يبدو كفرط حركة قد لا يعدو كونه طفل موهوب في مرحلة استكشاف الحياة. ولذلك يطلب المختصون عدم الاستعجال باعتبار هذه السلوكيات اضطراباً إلا اذا كانت مستمرة في مراحله التعليمية اللاحقة وبدأ تأثيرها السلبي واضحاً في حياته داخل المنزل وخارجه. وتستمر التحديات في مسار حياة هذا الطفل الصغير لتنتقل من عالمه الصغير في غرفته ومنزله إلى عوالم متعددة وبيئات جديدة، لينطلق في رحلته التعليمية وتحدياتها الجيدة.

تحديات المرحلة الابتدائية:

في هذه المرحلة الرائعة والحيوية من الحياة الطفولية، يخوض الطفل رحلة مليئة بالتحديات والاكتشافات في ساحة المدرسة وأروقتها. تتجلى تلك التحديات بوضوح، حيث يجد الطفل ذو فرط الحركة وتشتت الانتباه نفسه يتنقل في غابة الدروس والمعلومات.

بدايةً، يواجه هذا الطفل الصغير صعوبات في الانتباه لفترات طويلة، فكأنما يحاول قراءة كتاب مليء بالألوان والحركة. تكون الدروس كأغنية تتلاعب بإيقاعها، ويكاد يكون من الصعب عليه الابتعاد عن تجاذب الأفكار والاندفاعات الداخلية، يشبه الفصل الدراسي بالنسبة له لوحة فنية تتحول بين الألوان والأشكال، ويكون تركيزه عرضة لتشتت الانتباه في عالم مليء بالمحتوى والتحفيز في الفصل الدراسي، يتعرض الطفل ذو فرط الحركة وتشتت الانتباه إلى مجموعة من المواقف الاندفاعية التي تعكس تحدياته وتفرد سلوكه. تظهر هذه المواقف بوضوح وقد تكون مصدر إشكال في بيئة الصف.

إليك بعض السيناريوهات الممكنة:

عدم القدرة على الجلوس بدون حركة:
يعاني الطفل من صعوبة في الجلوس لفترات طويلة دون حركة. قد يظهر الاستمرار في الجلوس بمكان واحد بلا اندفاع كتحدي، حيث يحاول الطفل التحكم في حاجته الشديدة للحركة، ولكن دون جدوى.
التشتت وعدم الانتباه:
قد يظهر انشغال الطفل بالأفكار والاندفاعات الداخلية، مما يؤثر على قدرته على الانتباه إلى التعليمات أو الشرح داخل الفصل. يمكن أن يكون من الصعب عليه الاستماع للمعلم لفترات طويلة. وقد لا يستطيع الاستماع أكثر من دقائق معدودة.
الاندفاعات الحسية:
تظهر الاندفاعات الحسية بشكل واضح، حيث قد يكون لديه رغبة ملحة في لمس الأشياء أو تجربتها بشكل فوري. يمكن أن يؤدي هذا السلوك إلى تشويش في الفصل وإحداث انقطاع في التركيز الصفي، وهنا تبدأ الشكوى من سلوك هذا الطفل ومقاطعته لأنشطة الفصل المختلفة.
الاندفاعات المفاجئة:
قد يندفع الطفل فجأة للقيام بنشاط معين دون إشعار مسبق. على سبيل المثال، قد يقرر الوقوف والتجول في الفصل بينما يكون المعلم يقدم الدرس، مما يثير انزعاج زملائه ويخلق تشويش.
تجاوز الحدود في التفاعلات الاجتماعية:
قد يكون لديه صعوبة في فهم قواعد التفاعل الاجتماعي، مما يؤدي إلى مواقف اجتماعية غير مألوفة أو تصرفات غير مناسبة، مما قد يؤثر على علاقاته مع زملائه.

وتشكل الواجبات المدرسية ضغطاً كبيراً على كاهل هذا الطفل، فكثرة الأسئلة، وتنوع المواد، وصعوبة التفكير المستمر في موضوع واحد تتطلب بذل المزيد من الجهد والطاقة، فإما الهروب أو المواجهة المملة لهذه الأنشطة، وهنا يبدأ الصراع مع المعلين ومع الولدين لإنجازها، فطفل متحفز للحركة والنشاط مقابل مهام مملة بالنسبة إليه.

ومع ذلك، تتجلى مواهب الطفل في تحقيق الإبداع والتميز. يستفيد من طاقته الفائقة في الإيجابيات، حيث يمكن أن يكون رائدًا في مجالات العلوم والفنون أو الرياضة. تقدم لنا المرحلة الابتدائية للطفل لوحة متنوعة من الطاقات والإمكانيات، تبرز تحدياته وتفرد شخصيته في آن واحد، تجعل من رحلته في المدرسة مغامرة ملهمة تميزه عن غيره من الأطفال.

وتستمر معاناة هذا الطفل خارج أسوار المدرسة كذلك، ففي مجتمعه المحيط، يواجه التحيز والاستثناء، فهو إما أن يقصى من اللعب والمشاركة أو ينبز بالألقاب السيئة، حيث يصبح الاضطراب الذي يعاني منه علامة نحو الشذوذ أو السلوك العدائي. يجد نفسه محاصراً في شباك الأحكام السطحية والتسميات اللاذعة، وكأنه طفل بلا أمل. وهو الذي يحتاج إلى تفهم وتقدير المجتمع، لأنه يعاني من مشاكل داخلية غير مرئية تتطلب صبرًا ودعمًا بلا حدود.

رحلة التكيف في المراهقة:

مع دخول مرحلة المراهقة، تتعقد التحديات. قد يظهر عدم القدرة على إدارة الوقت والتنظيم، مما يؤثر على الأداء الأكاديمي والمشاركة في الأنشطة الروتينية. يتزايد الضغط الاجتماعي والتحديات في التفاعل مع الأقران.

التحديات الدراسية:
في المدرسة الثانوية، تزيد التحديات الدراسية والمسؤوليات. الطلاب ذوي فرط الحركة قد يواجهون صعوبة في التركيز وإكمال الواجبات المنزلية. قد تظهر التقييمات والاختبارات كتحديات إضافية لهم، يزداد معها الضغط المصاحب لذلك ويزداد التوتر والانفعال حول الجوانب الأكاديمية المختلفة.
التنظيم وإدارة الوقت:
تظهر التحديات في تنظيم الوقت وإدارته، حيث يكون من الصعب على الشباب ذوي فرط الحركة تنظيم مهامهم والالتزام بالجداول الزمنية، مما قد يؤثر على أدائهم الدراسي والشخصي.
التفاعلات الاجتماعية:
تستمر التحديات في التفاعلات الاجتماعية، حيث قد يكون من الصعب فهم الدقة في التواصل الاجتماعي والمشاركة في المحادثات بشكل فعّال، حيث يظهرون وكأنهم لا يهتمون لمشاعر الآخرين ولا يدركونها ، مما يؤثر على علاقاتهم الاجتماعية.
الاكتئاب والقلق:
يمكن أن يكون لديهم نسب أعلى من التوتر والقلق، ورغم أن هذا ليس بالضرورة جزءًا من فرط الحركة وتشتت الانتباه، إلا أن التحديات اليومية قد تزيد من مستويات الاكتئاب لدى بعض الأفراد.
التفاعل مع التغيرات الجسدية والهرمونية:
يواجه المراهقون تغيرات جسدية وهرمونية، وقد يكون التكيف مع هذه التغيرات صعبًا للشبان ذوي فرط الحركة، حيث يمكن أن يؤثر ذلك على مستويات الطاقة والاندفاع.
التحديات الاجتماعية والعاطفية:
في مرحلة المراهقة، يزيد الاهتمام بالعلاقات الاجتماعية والعاطفية. الأفراد ذوو فرط الحركة قد يواجهون تحديات في فهم أو تفسير إشارات الجسم والعواطف، مما يؤثر على العلاقات

أفق الأمل في الدعم والتفهم:

تتجلى أهمية دور الدعم الأسري والتفهم الجماعي في هذه الرحلة. يحتاج الطفل إلى بيئة مشجعة تستجيب لاحتياجاته الفريدة. يمكن أن تلعب الأسرة والمدرسة دورًا حيويًا في تخطي التحديات وتقديم الدعم الذي يحتاجه.

يحتاجون إلى بيئة مدرسية توفر التكيف والتخصيص، حيث يتم توفير التحفيز اللازم لتطوير قدراتهم الفريدة. يجب أن يتعاون المعلمون والمشرفون التربويون وأفراد الأسرة والمجتمع لتقديم الدعم والتوجيه لهؤلاء الأطفال. يمكن استخدام استراتيجيات التعلم المختلفة وتنظيم البيئة الصفية وتوفير أدوات التعلم المناسبة لتلبية احتياجاتهم الفردية. يمكن أيضًا اللجوء إلى العلاج السلوكي والعلاج الدوائي في بعض الحالات الشديدة.

على المجتمع أيضًا أن يتغير ويتطور في تصوره لاضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه. يجب أن يتم فهم أن هذا الاضطراب ليس مجرد تمرد أو عدم اهتمام، بل هو اضطراب عصبي يؤثر على قدرة الشخص على التركيز والانتباه. يجب أن يتم تعزيز الوعي والتثقيف حول هذا الاضطراب، وتوفير الدعم المجتمعي والقبول للأطفال الذين يعانون منه.

ختام الرحلة:

في نهاية المطاف، يبني الطفل ذو فرط الحركة وتشتت الانتباه طابعًا فريدًا من الشخصية، ويستمد من رحلته تجارب لا تُنسى. من خلال الدعم المتواصل والتفهم، يمكن للطفل أن يشق طريقه في الحياة بثقة ويحقق إنجازاته بأمان.

استشاري طب نفسي

مجلة ركز – العدد الأول ٢٠٢٤

[pvc_stats postid=”” increase=”1″ show_views_today=”1″]
الوسوم: